فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثانية: قرأ الحسن: {لاَ يَحَطِّمَنَّكُمْ} وعنه أيضًا {لاَ يَحِطِّمَنَّكُمْ} وعنه أيضًا وعن أبي رجاء: {لاَ يُحَطِّمَنَّكُمْ} والحطْم الكسر.
حطمته حَطْمًا أي كسرته وتَحطَّم؛ والتّحطيم التكسير، {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} يجوز أن يكون حالًا من سليمان وجنوده، والعامل في الحال {يَحْطِمَنَّكُمْ}.
أو حالًا من النملة والعامل {قَالَتْ} أي قالت ذلك في حال غفلة الجنود؛ كقولك: قمت والناس غافلون.
أو حالًا من النمل أيضًا والعامل {قَالَتْ} على أن المعنى: والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها.
وفيه بعدٌ وسيأتي.
الثالثة: روى مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن نملة قرصت نبيًا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله تعالى إليه أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبِّح» وفي طريق آخر: «فهلا نملة واحدة».
قال علماؤنا: يقال إن هذا النبيّ هو موسى عليه السلام، وإنه قال: يا رب تعذب أهل قرية بمعاصيهم وفيهم الطائع.
فكأنه أحب أن يريه ذلك من عنده، فسلّط عليه الحرّ حتى التجأ إلى شجرة مستروحًا إلى ظلّها، وعندها قرية النمل، فغلبه النوم، فلما وجد لذة النوم لدغته النملة فأضجرته، فدلكهنّ بقدمه فأهلكهنّ، وأحرق تلك الشجرة التي عندها مساكنهم، فأراه الله العبرة في ذلك آية: لما لدغتك نملة فكيف أصبت الباقين بعقوبتها يريد أن ينبهه أن العقوبة من الله تعالى تعم فتصير رحمة على المطيع وطهارة وبركة، وشرًا ونقمة على العاصي.
وعلى هذا فليس في الحديث ما يدلّ على كراهةٍ ولا حظرٍ في قتل النمل؛ فإن من آذاك حل لك دفعه عن نفسك، ولا أحد من خلقه أعظم حرمة من المؤمن، وقد أبيح لك دفعه عنك بقتل وضرب على المقدار، فكيف بالهوام والدواب التي قد سخرت لك وسلطت عليها، فإذا آذاك أبيح لك قتله.
وروي عن إبراهيم: ما آذاك من النمل فاقتله.
وقوله: «ألا نملة واحدة» دليل على أن الذي يؤذِي يؤذَى ويقتل، وكلما كان القتل لنفع أو دفع ضرر فلا بأس به عند العلماء.
وأطلق له نملة ولم يخص تلك النملة التي لدغت من غيرها؛ لأنه ليس المراد القصاص؛ لأنه لو أراده لقال ألا نملتك التي لدغتك، ولكن قال: ألا نملة مكان نملة؛ فعم البريء والجاني بذلك، ليعلم أنه أراد أن ينبهه لمسألته ربّه في عذاب أهل قرية وفيهم المطيع والعاصي.
وقد قيل: إن هذا النبيّ كانت العقوبة للحيوان بالتحريق جائزة في شرعه؛ فلذلك إنما عاتبه الله تعالى في إحراق الكثير من النمل لا في أصل الإحراق.
ألا ترى قوله: «فهلا نملة واحدة» أي هلا حرقت نملة واحدة.
وهذا بخلاف شرعنا، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد نهى عن التعذيب بالنار.
وقال: «لا يعذّب بالنار إلا الله» وكذلك أيضًا كان قتل النمل مباحًا في شريعة ذلك النبيّ؛ فإن الله لم يعتبه على أصل قتل النمل.
وأما شرعنا فقد جاء من حديث ابن عباس وأبي هريرة النهي عن ذلك.
وقد كره مالك قتل النمل إلا أن يضر ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل.
وقد قيل: إن هذا النبيّ إنما عاتبه الله حيث انتقم لنفسه بإهلاك جمع آذاه واحد، وكان الأوْلى الصبر والصفح؛ لكن وقع للنبيّ أن هذا النوع مؤذٍ لبني آدم، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان غير الناطق، فلو انفرد له هذا النظر ولم ينضم إليه التشفي الطبعي لم يعاتب.
والله أعلم.
لكن لما انضاف إليه التشفي الذي دلّ عليه سياق الحديث عوتب عليه.
الرابعة: قوله: «أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح» مقتضى هذا أنه تسبيح بمقال ونطق، كما أخبر الله عن النمل أن لها منطقًا وفَهِمه سليمان عليه السلام وهذا معجزة له وتبسم من قولها.
وهذا يدلّ دلالة واضحة أن للنمل نطقًا وقولًا، لكن لا يسمعه كل أحد، بل من شاء الله تعالى ممن خرق له العادة من نبيّ أو وليّ.
ولا ننكر هذا من حيث أنا لا نسمع ذلك؛ فإنه لا يلزم من عدم الإدراك عدم المدرك في نفسه.
ثم إن الإنسان يجد في نفسه قولًا وكلامًا ولا يسمع منه إلا إذا نطق بلسانه.
وقد خرق الله العادة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فأسمعه كلام النفس من قوم تحدّثوا مع أنفسهم وأخبرهم بما في نفوسهم، كما قد نقل منه الكثير من أئمتنا في كتب معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وكذلك وقع لكثير ممن أكرمه الله تعالى من الأولياء مثل ذلك في غير ما قضية.
وإياه عنى النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنّ في أمتي محدّثين وإن عمر منهم» وقد مضى هذا المعنى في تسبيح الجماد في {سبحان} وأنه تسبيح لسان ومقال لا تسبيح دلالة حال.
والحمد لله.
الخامسة: قوله تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا} وقرأ ابن السّمَيقُع: {ضحكا} بغير ألف، وهو منصوب على المصدر بفعل محذوف يدلّ عليه تبسم، كأنه قال ضحك ضحكًا، هذا مذهب سيبويه.
وهو عند غير سيبويه منصوب بنفس {تَبَسَّمَ} لأنه في معنى ضحك.
ومن قرأ: {ضَاحِكًا} فهو منصوب على الحال من الضمير في {تَبَسَّمَ}.
والمعنى تبسم مقدار الضحك؛ لأن الضحك يستغرق التبسم، والتبسم دون الضحك وهو أوّله.
يقال: بَسمَ بالفتح يَبْسِم بَسْمًا فهو باسم وابتسم وتبسم، والمَبْسِم الثغر مثل المجلس من جلس يجلس ورجل مِبسام وبسّام كثير التبسم، فالتبسم ابتداء الضحك.
والضحك عبارة عن الابتداء والانتهاء، إلا أن الضحك يقتضي مزيدًا على التبسم، فإذا زاد ولم يضبط الإنسان نفسه قيل قهقه.
والتبسم ضحك الأنبياء عليهم السلام في غالب أمرهم.
وفي الصحيح عن جابر بن سَمُرة وقيل له: أكنت تجالس النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ قال: نعم كثيرًا؛ كان لا يقوم من مصلاّه الذي يصلّي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام، وكانوا يتحدّثون ويأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم.
وفيه عن سعد قال: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ارمِ فداك أبي وأميّ» قال فنزعت له بسهم ليس فيه نصل فأصبت جنبه فسقط فانكشفت عورته، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظرت إلى نواجذه فكان عليه السلام في أكثر أحواله يتبسم.
وكان أيضًا يضحك في أحوال أُخَر ضحكًا أعلى من التبسم وأقل من الاستغراق الذي تبدو فهي اللَّهَوات.
وكان في النادر عند إفراط تعجبه ربما ضحك حتى بدت نواجذه.
وقد كره العلماء منه الكثرة؛ كما قال لقمان لابنه: يا بنيّ إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب.
وقد روي مرفوعًا من حديث أبي ذرّ وغيره.
وضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه حين رمى سعدًا الرجل فأصابه، إنما كان سرورًا بإصابته لا بانكشاف عورته؛ فإنه المنزَّه عن ذلك صلى الله عليه وسلم.
السادسة: لا اختلاف عند العلماء أن الحيوانات كلها لها أفهام وعقول.
وقد قال الشافعي: الحمام أعقل الطير.
قال ابن عطية: والنمل حيوان فطن قوي شمام جدًا يدّخر ويتخذ القرى ويشق الحب بقطعتين لئلا ينبت، ويشق الكزبرة بأربع قطع؛ لأنها تنبت إذا قسمت شقتين، ويأكل في عامه نصف ما جمع ويستبقي سائره عدّة.
قال ابن العربي: وهذه خواص العلوم عندنا، وقد أدركتها النمل بخلق الله ذلك لها؛ قال الأستاذ أبو المظفر شاهنور الإسفراييني: ولا يبعد أن تدرك البهائم حدوث العالم وحدوث المخلوقات؛ ووحدانية الإله، ولكننا لا نفهم عنها ولا تفهم عنا، أما أنّا نطلبها وهي تفر منا فبحكم الجنسية.
قوله تعالى: {وَقَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ} ف {أن} مصدرية.
و{أَوْزِعْنِي} أي ألهمني ذلك.
وأصله من وزع فكأنه قال: كفّني عما يسخط.
وقال محمد بن إسحاق: يزعم أهل الكتاب أن أم سليمان هي امرأة أوريا التي امتحن الله بها داود، أو أنه بعد موت زوجها تزوّجها داود فولدت له سليمان عليه السلام.
وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة ص إن شاء الله تعالى.
{وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين} أي مع عبادك، عن ابن زيد.
وقيل: المعنى في جملة عبادك الصالحين. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا}.
هذا ابتداء قصص وأخبار بمغيبات وعبر ونكر.
{علمًا} لأنه طائفة من العلم.
وقال قتادة: علمًا: فهمًا.
وقال مقاتل: علمًا بالقضاء.
قال ابن عطاء: علمًا بالله تعالى.
وقال الزمخشري: أو علمًا سنيًا عزيزًا.
{وقالا} قال: فإن قلت: أليس هذا موضع الفاء دون الواو، كقولك: أعطيته فشكر ومنعته فصبر؟ قلت: بلى، ولكن عطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه، فأضمر ذلك، ثم عطف عليه التحميد، كأنه قال: ولقد آتيناهما علمًا، فعملا به وعلماه، وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة، {وقالا الحمد لله}، والكثير المفضل عليه من لم يؤت علمًا، أو من يؤت مثل علمهما، وفي الآية دليل على شرف العلم. انتهى.
والموروث: الملك والنبوّة، بمعنى: صار ذلك إليه بعد موت أبيه فسمي ميراثًا تجوزًا، كما قيل: العلماء ورثة الأنبياء.
وحقيقة الميراث في المال والأنبياء لا نورث مالًا، وكان لداود تسعة عشر ولدًا ذكرًا، فنبىء سليمان من بينهم وملك.
وقيل: ولاه على بين إسرائيل في حياته من بين سائر أولاده، فكانت الولاية في معنى الوراثة.
وقال الحسن: ورث المال لأن النبوة عطية مبتدأة لا تورث.
وقيل: الملك والسياسة.
وقيل: النبوة فقط، والأظهر القول الأول، ويؤيده قوله: {علمنا منطق الطير}، فهذا يدل على النبوة؛ {وأوتينا من كل شيء} يدل على الملك، وكان هذا شرحًا للميراث.
وقوله: {إن هذا لهو الفضل المبين} يقوي ذلك، ولا يناسب شيء من هذا وراثة المال.
وقوله: {يا أيها الناس} تشهير لنعمة الله، وتنويه بها واعتراف بمكانها، ودعاء الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير، وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور.
و{منطق الطير} استعارة لما يسمع منها من الأصوات، وهو حقيقة في بني آدم، لما كان سليمان يفهم منه ما يفهم من كلام بني آدم، كما يفهم بعض الطير من بعض، أطلق عليه منطق.
وقيل: كانت الطير تكلمه معجزة له، كقصة الهدهد، والظاهر أنه علم منطق الطير وعموم الطير.
وقيل: علم منطق الحيوان.
قيل: والنبات، حتى كان يمر على الشجرة فتذكر له منافعها ومضارها، وإنما نص على الطير، لأنه كان جندًا من جنوده، يحتاج إليه في التظليل من الشمس، وفي البعث في الأمور.